المقالات » الحجّ عند البشر جميعا


أحمد الواسطي | تاريخ النشر: 2010-11-07| قراءات: [ 10] 




هو زيارة جماعيّة لمكان مقدّس ، في وقت معلوم ، بقصد الشعور باقترابٍ خاصٍّ من المعبود الذي يؤمِن به القـوم ، ويربطون هذه الزيارة بذكريات معيّنة موغِلة في القِدم ، تتّصل بالمكان الذي يَفِدون إليه .

هكذا كان الحجّ ولا يزال ، فقد قدّس الناس : الأشجار ، والغابات ، والجبال ، والأنهار ، والآبار ، وجعلوا منها أماكن يزورونها جماعات ، فيشعرون بالقوّة التي يبعثها في نفوسهم العددُ الكثير ، وبالطمأنينة ؛ لوجودهم معاً في موقف عبادة ذات شعائر خاصّة ، ونظام دقيق .

ومِن المؤكّد أنّ الإنسان في العصور السحيقة قبل التاريخ كان يرتاد بقاعاً من الأرض يجد لها رهبة ، أو راحة نفسـيّة ، أو شفافيّة روحانيّة ، يحلّق بها في آفاق أسمى من المطالب المادِّيَّة التي تحاصره ، ثمّ تبلور هذا الشعور في العصور التاريخيّة القديمة :

* فالمصريّون القدماء كانوا يعتقدون أنّ آلهتهم الفرعونيّة تجتمع في معبد ( أوزيريس ) بمدينـة ( أبيدوس ) في عيد هذا المعبود ، فكانوا يحجّون إليه بهذه المناسبة .

* وكان الهنود يحجّون إلى المعابد الضخمة بجبال الهملايا ، أو علـى ضفـاف نهــر الكنج ، في ( جُمن ) ، أو ( برندابان ) أو في مدينة ( بَنارِس ) الجليلة القدر عندهم .

* وفي الصين كانت الجبال المقدّسة التي يَؤمّونها للحج كثيرة ، خاصّة جبال ( تاي ـ تِشان ) .

* وفي اليابان حيث تلتقي عبادة أرواح الأسلاف بالطقوس البوذيّة ، في تَعايُش سلمي منسجم ، تقوم معابد ( الشِنْتو ) ـ أي تقديس الأسلاف ـ مستقلّة عند المعبد البوذي ومجاورة له : الأُولى : تُسمّى في لغتهم ( جِنْج ) ، والثانية : ( أوتير ) ، وأماكن حجّهم على الجبال العالية ، ولا سيّما جبل ( فُوجي يام ) ، كما يؤمّون المعابد البوذيّة في مدينة ( نار ) ، حيث أقسم أسلافهم القدماء على تحرير وطنهم من التبعيّة لامبراطور الصين ، فأصبح معبدها البوذي مكاناً للحجّ .

* وفـي العـراق القـديم كانـت كـلّ إمارة سومريّة أو أَكَدِيَّة في ( الألف الرابع قبل الميلاد ) تَتّخذ لها عاصمة : تل العُبيد ( الوَرْكاء ) ، أُور ( إريدُو ) ، تل خَلَف ( نينوى ) ، بابل ( خفاجي ) ، أرْبِل ( كِرْكوك ) ... الخ ، وكان تخطيط العاصمة يبدأ بمعبد مركزي ، يمنح المدينة قُدسيّتها، إذْ يصبح حَرَماً ومكاناً للحج . وكان هذا المعبد :

ـ إمّا مربّعاً ؛ إشارة إلى أنّ الله هو المهيمن على الجهات الأربع للعالم : الشرق والغرب والشمال والجنوب .

ـ وإما بيضويّاً ؛ يذكّر بأنّ الله خالق للحياة ، بإرادته تخرج الدجاجة ، لتبيض بدورها بمشيئته ، فتستمرّ الحياة .

وفي كلّ معبد برج شامخ يسمّونه ( زِقُّورة ) : شكله مربّع في المعابد المربّعة ، ومستدير في المعابد البيضويّة ، ينتهي من أعلى بشرفةٍ يَرْصُد منها الكهنةُ النجومَ ، وكانوا يعبدونها ، ويعلنون بدايات الطقوس الدينيّة للحجّاج .

* وهكذا كان الحجّ في إيران القديمة وبلاد الحيثيّين في آسيا الصغرى ، وغيرها من بلدان العالم القديم .

وإذا كان إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) قد رفع القواعد من بيت الله في مكّة المكرّمة ، فإنّه لم يَرِد عنه ـ حتّى في المرويّات اليهوديّة ـ أنّه بنى لله تعالى بيتاً آخر في فلسطين ، بل يقولون : إنّه مرّ ببلدة ( سالم ) ـ وهو الاسم الفلسطيني القديم للقدس ـ فنزل ومَن معه ضيوفاً على ملكيصادق ( ملك الفلسطينيّين ) وقدّم ملكيصادق ـ ملك ( سالم ) ـ خبزاً ونبيذاً ; لأنّه كان كاهناً لله العليّ ، ثمّ باركه وقال :

( مبارك أبرام من الله العليّ مالك السموات والأرض ، وتبارك الله العليّ الذي دفع أعداءك إلى يديك ) (1).

* أمّا الساميّون ، فقد كانوا على اختلاف عشائرهم يحجّون إلى أماكن معيّنة في أوقات معلومة ، وكان أهمّ هذه البقاع المباركة عندهم : الجبال ، والأشجار ، والآبار ، وعيون الماء ، فنقرأ ـ مثلاً ـ في التوراة :

( وهذه هي الرسوم والأحكام التي أعطاك الربّ إله آبائك ، لتملكها كلّ الأيّام ، التي تَحيَونها على الأرض ، تقوّضون جميع المواضع التي كانت الأُمم التي ترثونها تعبد فيها آلهتها : على الجبال الشامخة ، والتلال ، وتحت كلّ شجرة وارفة ، وتُهدّمون مذابحهم ، وتكسّرون أنصابهم ، وتحرّقون غاباتهم بالنار ، وتحطّمون زخارفهم لآلهتهم ، وتمحون أسماءهم من ذلك الموضع حتّى لا تصنعوا هكذا نحو الربّ إلهكم . بل الموضع الذي يختاره الربّ إلهكم من جميع أسباطكم ، ليحلّ فيه اسمه ويسكن فيه ، فتؤمونه ، وإلى هناك تسيرون، حاملين إليه محرقاتكم وذبائحكم وأعشاركم وتقدمات أيديكم ونذوركم ونوافلكم وبكور بَقَرِكم وغَنَمِكم . وتأكلون هناك أمام الربّ إلهكم ، وتفرحون بجميع ما تمتدّ إليه أيديكم أنتم وبيوتكم ، ممّا بارككم فيه الربّ إلهكم ) (2).

ولم ينصّ الربّ ـ لا هنا ولا في أيّ نصّ من كتابهم ـ على هذا الموضع ! أمّا ( أورشليم ) فلم يكن اسمها قد أُطلق عليها بعد ، بل كانت تحمل اسم ( سالم ) الفلسطيني ، ثمّ سُمِّيتْ ( يبوس ) باسم العشيرة الفلسطينيّة التي كانت تسكنها ، أمّا ( أُورشليم ) فقد بدأ بناءَها داودُ ، وأتمّها سليمان ، كلّ ذلك بعد موسى بخمسمئة سنة ، وهما عند اليهود من الملوك وليسا من الأنبياء ، ولا الكهنة !

وكان اليهود ـ أو بنو إسرائيل ـ يجعلون من الأشجار والجبال والتلال وعيون الماء والآبار مزارات يحجّون إليها ويتبرّكون بها ، ويبنون عندها معابدهم (3).

ولا يفوتنا أنْ نذكر ( بئر الحيّ الرائي ) بالقرب من الخليل ، وقبالة سنديانة قمراً ، وكثير من اليهود يحجّون إليها حتّى اليوم ؛ لِمَا جاء في التوراة :

( وكان بعد موت إبراهيم أنّ الله بارك إسحق ابنه ، وأقام إسحق عند بئر الحيّ الرائي ... ) (4).

كما سبق ذكر التبرّك بهذه البئر ، إذْ تزوّج عندها إسحق من رفقة ، قبل موت أبوَيه إبراهيم وسارة (5).

أمّا معبد ( بيت إيل ) الذي أقامه يعقوب في أرض كنعان بالقرب من نابلس ، فقد كان المكان الأوّل الذي يحجّ إليه بنو إسرائيل ، حتّى بعد أنْ شيّد سليمان الهيكل في القدس ، ولم يفقد منزلته هذه إلاّ بعد انشطار مملكة سليمان نصفين بعد وفاته :

ـ السامرة شمالاً ، وكانت مملكة معادية لأُسرة داود وسليمان في الجنوب ، وتسمّي نفسها إسرائيل ! واستمرّت في الحجّ إلى ( بيت إيل ) .

ـ أمّا أُسرة يهوذا المنحدرة من داود وسليمان فكانت تحجّ إلى ( الهيكل ) في أُورشليم ، وهو الاسم الذي اشتهرت به منذ سليمان .
______________
الهوامش:
(1) التوراة ، سفر التكوين 14 : 18 ـ 20 .
(2) سفر التثنية 12 : 1 ـ 7 .
(3) سفر التكوين 18 : 1 ـ 14 .
(4) التكوين 25 : 11 .
(5) التكوين 24 : 62 .